الثلاثاء، ٤ نوفمبر ٢٠٠٨

ابتسامة الألم

الحجرة بسيطة..تضم سريرين متقابلين..ودولاب ومنضدةعليها جهاز كمبيوتر..وأجمل مافيها تلك النافذة التى تطل على الشارع وتسمح لضوء الشمس بالتجول كل يوم فى الحجرة المتواضعة...هذه النافذة كانت هى الفاصل الوحيد بين الشقيقين اللذين يسكنان  الحجرة ..منذ أكثر من ربع قرن..ويتشاركان فى كل شيء...حتى فى نوبات ألم النزف والتى تعاود كليهما بين الحين والآخر ..و التى توصف طبيا بأنها فوق احتمال البشر ..كانت عندما تواتى أحدهما النوبة.. يشعرالآخر أنه هو الذى ينزف..لحظتها ترى تقلصات الألم تنتقل من وجه أحدهما الى وجه الآخر دون عوائق..وترى انكسار المعاناةتمر بعيونهما ..فلا تستطيع أن تميز من منهما الذى ينزف ؟ومن الذى يتألم؟!
حتى الدواء الذى يحقنان به للتخفيف من حدة الألم هو نفس الدواء..ولسوء الحظ هو نادر ،وباهظ الثمن..فهوأحد مشتقات الدم..لذلك فكانت الوحدة التى يتيسر الحصول عليها تحفظ فى الثلاجة للأوقات الحرجة..ولقد اعتاد كل منهما على حقن الآخر..
الليلة ..لم تكن نهاية السهرة كبدايتها..بعد العشاء كنا على موعد مع المنتدى الانترنتى الذى نتابعه معا كل مساء تقريبا..وفى الوقت الذى احتدت فيه المناقشة حول أ حد الموضوعات السياسية..كانت نوبة النزف تهاجم ركبة الابن الأصغر..حاولنا اقناعه بالحقن حتى لا تتفاقم الحالة..لكنه آثر استخدام كمادات الثلج توفيرا للحقنة الوحيدة الموجودة..لكن النزف كان له رأى آخر..فازداد حدة وشراسة ..وسرعان ما تحولت ركبة الشاب الى مايشبه البطيخة..وكشرت الآلام عن أنيابها..وتأزم الأمر..ولم يكن هناك بد من استخدام الحقنة.. وبدأنا جميعا الاعداد لعملية الحقن..
وبينما نحن على هذا الحال..حتى فوجئنا بأن الابن الأكبر منحنيا وغير قادر على اعتدال قامته..لمحت علا مات الألم تغشى وجهه المصفر..وموجات من التقلصات الغريبة تشوه ملامحه المحببة..هل هو امتداد معتاد لآلام أخيه؟! سألته عما ألم به .. لم يجب .. كان ما يزال منكبا على اعداد الحقنة لأخيه...لكن وجهه كا ن شاحبا بطريقة مخيفة.. وبدأت حركات يديه تضطرب..ألححت عليه بالسؤال..وكررته مرات..
فجأة صرخ..بما يشبه الانفجار المكبوت..ثم تكوم حول نفسه..وهو يغالب ألم النزف الداخلى أعلى الفخذ..
فى هذا الموقف المعقد دار حوار معقد..حوار بلا لغة..وليست له ترجمة..لكن فحواه أن كل منهما يرفض بعناد أن يأخذ الحقنة..وكل منهما يصر على أن يعطيها لأخيه !!
الآن تحتم علينا أن تكون الحقنة الوحيدة من نصيب صاحب الحالة الأخطر.... وعلى الابن الأصغر أن يبتلع آلآم ركبته..ويقوم بحقن أخيه..الحقنة أصبحت معدة ..حيث تمت معادلة درجة حرارتها بدرجة حرارة الغرفة..وقمنا بتعليق الزجاجة التى تحتوى على مادة الحقن بأعلى المكان وامتد منها الخرطوم الذى ينتهى بسن الحقن،وقد أمسك به الابن الأصغر ليضعه برفق واحكام فى وريد أخيه..

صوت سقوط الزجاجة من أعلى وتحطمها هو الذى قطع لحظة الصمت الثقيلةالتى سبقت العملية..
لحظة غريبة من الدهشة والذهول..
ثم راح الأخوان فى الضحك بصوت عال..وقد احتضن كل منهما الآخر بكل ما أتيح لهما بقوة..
كنت وأمهما..وقوفا ..لانصدق مانراه..ولا ندرى ماذا سنفعل...!!
غيرأن مرارة شديدة التركيز كانت تنسكب فى حلقى..وأكاد أشعر بكبدى يتفتت بداخلى ويذوب فى دوامة الألم والحيرة..
لكنى..ولأول مرة فى حياتى أرى ابتسامة للألم........!!!!!


ليست هناك تعليقات: